(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). الخطاب لمحمد (ص) .. ولا أحد يظن الجنون بمحمد إلا مجنون .. والذين وصفوه بذلك أرادوا أن له جنيا يوحي اليه ، كما كانوا يزعمون بأن لكل شاعر جنيا يعلمه الشعر ، ويومئ الى هذا قوله تعالى حكاية عنهم : (وَيَقُولُونَ أَتنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ـ ٣٦ الصافات. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي دائم غير مقطوع .. وبديهة ان الأجر يقاس بنتائج الأعمال وآثارها ، ولا تزال آثار محمد ودعوته وعظمته قائمة الى اليوم في شرق الأرض وغربها ، وستبقى الى آخر يوم ، فلا بدع إذا ظفر من ربه بالعقبى الدائمة ، والكرامة الخالدة.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ما وصف سبحانه أحدا من رسله بهذا الوصف إلا محمدا ، ويتلخص معناه بقول الرسول الأعظم (ص) : «أدبني ربي فأحسن تأديبي» أي ان الله قد اتجه بأخلاق محمد (ص) الى نفس الهدف الذي خلقها الله من أجله. وأيضا ما أقسم الله بحياة انسان إلا بحياة محمد (ص) ، وذلك حيث يقول عز من قائل : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ـ ٧٢ الحجر. أما وصف محمد (ص) بخاتم النبيين فمعناه ان محمدا بلغ من صفات الكمال أقصى ما يصل اليه انسان .. ومستحيل أن يأتي من بعده من هو أفضل منه ، أو يأتي بشريعة أفضل من شريعته ، بل لا يضارعه مخلوق من الأولين والآخرين ، والى ذلك يومئ قوله (ص) : «أنا سيد الناس ولا فخر» ومن أجل هذا ختمت به النبوات وبشريعته الشرائع ، قال ابن عربي في الفتوحات ما معناه : ان الله خلق الخلق أصنافا ، وجعل من كل صنف أخيارا ، ومن الأخيار الصفوة ، وهم الأنبياء ، ومن الأنبياء الخلاصة ، وهم أولو العزم ، ومن الخلاصة خلاصتها وهو محمد الذي لا يكاثر ولا يقاوم.
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ). هذا تهديد ووعيد ؛ ومعناه عما قريب يتبين لك ولأعدائك يا محمد انهم أولى الناس بوصف الجهل والضلال والجنون ، وانك أعلى الناس عقلا وأعظمهم خلقا ، وأكرمهم عند الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). الله يعلم يا محمد مكانك من العظمة والهداية ؛ ومكان خصومك من الضلالة والغواية ، وأمامهم الحساب والجزاء. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٥٣ (فَلا