فإذا أينعت الثمار وحان وقت قطافها تواطئوا فيما بينهم ، وأقسموا أن يجنوا ثمار البستان في الصباح الباكر على غفلة من الفقراء ، ودون ان يعلقوا جني الثمار على مشيئة الله وارادته .. وقد تواصوا بالشح وحرمان المحتاجين مما آتاهم الله ومنّ به عليهم ذاهلين عن تدبير الله وتقديره .. وفي نفس الليلة التي أرادوا قطف الثمار في صباحها سلّط الله على البستان آفة سماوية أفسدت الثمار عن آخرها ، أو استأصلت البستان من جذوره.
ولما استيقظوا من نومهم وذهبوا الى البستان للقطاف في الوقت الموعود هالهم ما حاق به من الهلاك ، وأخذ يلوم بعضهم بعضا ، ويقول كل لصاحبه : أنت السبب .. وكان منهم رجل رشيد قد حذرهم سوء العاقبة من قبل ، فلم يستمعوا له ، وبعد ان وقع المحذور قال لهم : نصحت لكم ، ولكن لا تحبّون الناصحين ، فتوبوا الآن الى ربكم لعلكم تفلحون ، فتابوا اليه تعالى ، وسألوه العفو عما سلف ودعوه مخلصين أن يرحمهم ويمنّ عليهم بخير من بستانهم.
والقصد من هذا المثل ان يتعظ به كل من أنعم الله عليه بشيء من فضله وبخاصة أهل مكة ، ومنهم الأثيم الزنيم وإلا دارت عليهم دائرة السوء تماما كما حدث لأصحاب البستان .. ويقول الرواة : ان الله سبحانه ابتلى أهل مكة بالجوع والقحط لأنهم كذبوا محمدا (ص) فدعا عليهم واستجاب الله لدعائه ، ودام فيهم القحط سبع سنين حتى أكلوا العظام والجيف ، وقال الرواة أيضا انه تعالى أهلك أموال الزنيم الوليد بن المغيرة الذي كان ذا مال وبنين.
هذا هو المعنى المراد من مجموع الآيات وما تهدف اليه ، وفيما يلي الشرح والكشف عن المعنى المتبادر من كل آية :
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ). الهاء تعود الى الجنة ، وهي في اللغة البستان ، ثم كثر استعمالها في جنة الخلد حتى أصبحت علما عليها بكثرة الاستعمال ، والمراد منها هنا البستان ، والمعنى ان أصحاب البستان حلفوا على أن يجنوا ثماره في الصباح الباكر على غفلة من الفقراء (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لم يقولوا : نجني الثمار صباحا إن شاء الله ، وقال البعض : المعنى دون أن يستثنوا من ثمر البستان شيئا للمساكين .. وكل من المعنيين يجوز ، وأيضا يصح ارادتهما معا.