بعد موسى اشتهروا بعنوان «بني إسرائيل» ولم يطلق عليهم عنوان : قوم موسى ، إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوما بسببه وشريعته.
فأما عيسى فإنما كان مرسلا بتأييد شريعة موسى ، والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها ، ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدّقوه فلم يكونوا قوما له خالصين.
وتقدم القول في معنى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) في أوائل سورة آل عمران [٥٠] وفي أثناء سورة العقود.
والمقصود من تنبيههم على هذا التصديق حين ابتدأهم بالدعوة تقريب إجابتهم واستنزال طائرهم لشدة تمسكهم بالتوراة واعتقادهم أن أحكامها لا تقبل النسخ ، وأنها دائمة. ولذلك لما ابتدأهم بهذه الدعوة لم يزد عليها ما حكي عنه في سورة آل عمران [٥٠] من قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، فيحمل ما هنالك على أنه خطاب واقع بعد أول الدعوة فإن الله لم يوح إليه أوّل مرّة بنسخ بعض أحكام التوراة ثم أوحاه إليه بعد ذلك. فحينئذ أخبرهم بما أوحي إليه.
وكذلك شأن التشريع أن يلقى إلى الأمة تدريجا كما في حديث عائشة في «صحيح البخاري» أنها قالت : «إنما أنزل أوّل ما أنزل منه (أي القرآن) سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو أنزل أول شيء : لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا نترك الخمر أبدا ، ولو نزل : لا تزنوا : لقالوا : لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلىاللهعليهوسلم وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦] ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده» اه.
فمعنى قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) في كلتا الآيتين هو التصديق بمعنى التقرير والأعمال على وجه الجملة ، أي أعمال مجموعها وجمهرة أحكامها ولا ينافي ذلك أنه قد تغير بعض أحكامها بوحي من الله في أحوال قليلة.
والتبشير : الإخبار بحادث يسرّ ، وأطلق هنا على الإخبار بأمر عظيم النفع لهم لأنه يلزمه السرور الحق فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة.
ووجه إيثار هذا اللفظ الإشارة إلى ما وقع في الإنجيل من وصف رسالة الرسول