أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم. وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شئونهم أفضل من شئون غيرهم. ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا ، وفي «الكشاف» «افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة».
وافتتح بفعل (قُلْ) للاهتمام.
و (الَّذِينَ هادُوا) : هم الذين كانوا يهودا ، وتقدم وجه تسمية اليهود يهودا عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) في سورة البقرة [٦٢]. ويجوز أن يكون (هادُوا) بمعنى تابوا لقول موسى عليهالسلام بعد أن أخذتهم الرجفة : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) كما تقدم في سورة الأعراف [١٥٦]. وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد. وأصل هود هوود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علما بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم.
وجيء ب (إِنْ) الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة العقود [١٨] : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) للإشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعا على طريقة قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] ويفيد ذلك توبيخا بطريق الكناية.
والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت. وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه.
والأمر في قوله : (فَتَمَنَّوُا) مستعمل في التعجيز : كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣].
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموت رجوع الإنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله.