إن المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) الآية.
وجملة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) حال من الذين تبوّءوا الدار ، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإسلام إذ أحبوا المهاجرين ، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في «الصحيح» من خبر سعد بن الربيح مع عبد الرحمن بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن ينزل له عن إحدى زوجتيه ، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم ، وحسبك الأخوة التي آخى النبيصلىاللهعليهوسلم بين المهاجرين والأنصار.
وقوله : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أريد بالوجدان الإدراك العقلي ، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر :
ولا ترى الضبّ بها ينجحر
والحاجة في الأصل : اسم مصدر الحوج وهو الاحتياج ، أي الافتقار إلى شيء ، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، وهي هنا مجاز في المأرب والمراد ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) [غافر : ٨٠] ، أي لتبلغوا في السفر عليها المأرب الذي تسافرون لأجله ، وكقوله تعالى : (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) [يوسف : ٦٨] أي مأربا مهمّا وقول النابغة :
أيام تخبرني نعم وأخبرها |
|
ما أكتم الناس من حاجي وإسراري |
وعليه فتكون (من) في قوله : (مِمَّا أُوتُوا) ابتدائية ، أي مأربا أو رغبة ناشئة من فيء أعطيه المهاجرون. والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.
و (ما أوتوا) هو فيء بني النضير.
وضمير (صُدُورِهِمْ) عائد إلى (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) ، وضمير (أُوتُوا) عائد إلى (مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى (من)