ذلك الوادي القفر الوعر ميتا كان في الغارب والسنام من العلم والإيمان.
وجد صحابيا عظيما كان رسول الله يقرّبه ويدنيه قد فارق الدنيا .. وجد مثالا للقداسة والتقوى ، فتمثّل أمام عينيه تلك الصورة المكبّرة التي كان يشاهدها على العهد النبوي.
وجد شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة هديا وسمتا ونسكا وزهدا وخلقا ، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الإسلام.
وجد عزيزا من أعزاء الصحابة على الله ورسوله وعلى المؤمنين قد أودى على مستوى الهوان في قاعة المنفى مظلوما مضطهدا .. وجد في قارعة الطريق جثمان طيّب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس ، وتسفي عليه الرياح ، وذكر قول رسول الله : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويحشر وحده. فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله ، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى ، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الإنسان المبجّل ، فلما هبطوا يثرب ، نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر ، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا ، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا ، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطمّ جيفته ، فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة ، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم وموئل التقوى ومنبثق الإيمان ، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.