وإن كان الثانى : فهى غير بديهية ؛ إذ لا معنى للبديهى ؛ إلا ما لا يتوقف (١) العقل في تعقله على (١) أمر خارج عنه.
الثانى : أنّ البديهيات من المعقولات ، والمعقولات فرع المحسوسات ، ومنتزعة منها ؛ ولهذا قيل : إنّ من فقد / حسا ؛ فقد فقد علما. وقد ذهب جمع من العقلاء : إلى أن المحسوسات غير يقينية ، فما هو متفرع عليها ؛ أولى أن لا يكون يقينيا.
وبيان أنها غير يقينيّة : ما نشاهده من القطرة النازلة ؛ (٢) خطا مستقيما (٢) ، والنّار في رأس العود الدائر بسرعة ؛ دائرة متصلة ، والصغير كبيرا : كالنار البعيدة في الظّلمة ، والكبير صغيرا : كالمرئيّات من بعد ، والمتحرك ساكنا : كالكواكب ، والساكن متحركا : كالأشياء التى يراها راكب السفينة على الشطوط ، والمتحرك إلى جهة ، وهو متحرك إلى خلافها : كحركة القمر في الغيم ، والمعدوم موجودا : كالمرئى في المرايا من الصّور ، والألوان المختلفة : كقوس قزح ، وما يشاهده النّائم في منامه ، وصاحب الرسّام من الصّور التى لا وجود لها. إلى غير ذلك.
وهذا كله مما يدل على غلط المحس ، فما هو متفرع عليه ، كيف يكون يقينيا؟
الثالث : هو أن أجلى البديهيّات : الحكم بأن لا واسطة بين النفي والإثبات ، وهو غير يقينى ؛ فما دونه أولى أن لا يكون يقينيا. وبيانه : أن التصديق بهذه القضية ؛ متوقّف على تصوّر مفرداتها ، وهما النفي والإثبات ، والنّفي غير بديهى التّصور ؛ ولذلك وقع الاختلاف بين العقلاء في تصوّره ؛ فما هو متفرّع عليه ؛ أولى أن لا يكون بديهيا.
الرابع : هو أنا قد نجد أنفسنا جازمة بقضايا على نحو جزمنا بالبديهيات ، والجزم بها غير جائز : كجزمنا بأنّ ما شاهدناه من ماء البحر باق بحاله مع جواز إعدامه ، أو قلبه دما عبيطا (٣) ، أو غير ذلك ، وكجزمنا بأن ما شاهدناه مرة بعد مرة : أنّه عين المرئى أولا. مع جواز إعدام الأول وخلق مثله ، وكالذى يجزم قضيته بناء على دليلها جزما لا يرتاب
__________________
(١) في ب (الأمر في تعقله إلى).
(٢) في ب (مستشما).
(٣) (دم عبيط) طرىّ خالص لا خلط فيه (المصباح المنير : باب العين فصل الباء).