ثمّ إنّ زيادا سمع بشيء ممّا عند أبي الأسود (١) ، ورأى اللّحن قد فشا ، فقال لأبي الأسود : أظهر ما عندك ليكون للناس إماما. فامتنع من ذلك ، وسأله الإعفاء ، حتّى سمع أبو الأسود قارئا يقرأ : (إنّ الله بريء من المشركين ورسوله) بالكسر ، فقال : ما ظننت أمر الناس آل إلى هذا. فرجع إلى زياد فقال : أنا أفعل ما أمر به الأمير ، فليبغني (٢) كاتبا لقنا (٣) يفعل ما أقول ، فأتي بكاتب من عبد القيس (٤) ، فلم يرضه ، فأتي بكاتب آخر ـ قال المبرد : أحسبه منهم ـ فقال له أبو الأسود : إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه ، وإن ضممت فمي ، فانقط نقطة بين يدي الحرف ، وإن كسرت ، فاجعل نقطة من تحت الحرف ، وإن مكنت (٥) الكلمة بالتنوين فاجعل أمارة ذلك نقطتين ، ففعل ذلك ، وكان أول ما وضعه لهذا السبب.
وأهل مصر قاطبة يرون بعد النقل والتصحيح أنّ أوّل من وضع النحو عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي ، وأخذ عن أبي الأسود الدؤلي نصر بن عاصم البصري ، وأخذ عن نصر أبو عمرو بن العلاء البصري ، وأخذ عن أبي عمرو الخليل بن أحمد ، وأخذ عن الخليل (٦) سيبويه
__________________
(١) أي علم النحو الّذي أخذه عن الإمام عليّ كما مرّ بنا خبره.
(٢) يقال : أبغني الشيء ، أي أعني على طلبه.
(٣) اللّقن : سريع الفهم.
(٤) عبد القيس : قبيلة من أسد ، وكانت ديارهم في تهامة ، ثمّ خرجوا منها إلى البحرين.
(٥) في أخبار النحويين للسيرافي ، ص ١٦ : «فإن أتبعت شيئا من ذلك غنّة ، فاجعل مكان النقطة نقطتين».
(٦) زيادة تقتضيها صحّة الرواية ، ولم يذكر أحد من واضعي التراجم أن سيبويه أخذ عن أبي عمرو بن العلاء. والروايات تجمع على أنّه أخذ عن الخليل ، وهذا أخذ عن أبي عمرو بن العلاء. انظر ابن خلكان ٣ / ١٣٣ ؛ وابن كثير ١١ / ٧٠.