في الأفعال ما يعلم حسنه كالصدق والعدل والتوحيد فيحكم بترتب الثواب والمدح عليه ، ومنها ما يعلم قبحه كالكذب والظلم والشرك فيحكم بقبحه وترتب الذم والعقاب عليه ، أمّا ما لا يدرك حسنه ولا قبحه فيدركه بكشف الشريعة عنه للملازمة بين الحكومتين الشرعية والعقلية ، وهذا الأخير هو مورد الآيات الدالّة على نفي التعذيب مع عدم بيانه بيانا يستطيع به المكلّف على الامتثال والإطاعة لخروجه عن إدراكه فلا يحكم قبله في بشيء مطلقا.
ثانيا : إنّ المراد من الرسول في الآية الأنبياء عليهمالسلام وقد ثبت فيما مضى أن القول بكون الحسن والقبح شرعيّين يقتضي تكذيب الأنبياء عليهمالسلام فثبوت كونهما شرعيّين يتوقف على ثبوت كون أولئك الرسل أنبياء عليهمالسلام أرسلهم الله ، فلو توقف ثبوت نبوّتهم عليهمالسلام على كونهما شرعيّين لزم الدور الباطل ، فيجب تخصيص عموم الآيات بغير المستقلاّت العقلية ، فيخرج ذلك كلّه عن مورد الآية ونحوها مما هو بمضمونها بالدليل القطعي ، أو تكون الآيات مؤكدة لحكم العقل فيما استقلّ به كما ألمعنا.
ثالثا : إنّ المراد من الرسول ما يعمّ البيان العقلي والنقلي ، لأن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هو المبلّغ وهو يعمّ العقل لأنه أيضا مبلّغ ، فالآية صريحة في نفي فعلية التعذيب مع عدم المبلّغ بالواجب والحرام ، أما مع المبلّغ وهو حكم العقل بالقبح أو الحسن ، فلا يكون من التعذيب مع عدم البيان والتبليغ ، ويؤكد هذا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( إنّ لله حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، أما الحجّة الظاهرة فالرسل ، وأمّا الحجّة الباطنة فالعقل ).
رابعا : إنّ صريح الآية وقوع التعذيب سابقا بعد البحث والتنقيب كما يدلّ عليه إتيانه بصيغة الماضي ، وحينئذ فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السّالفة في الأجيال الماضية دون العذاب الأخروي فتأمل ، ومن جميع ذلك تعرف فساد ما جاء به الآلوسي في ص : ( ٥٣ ـ ٥٧ ) من الأباطيل والأضاليل التي تبطل نفسها بنفسها ، وتبرهن بدلالتها على ضلالتها ، وتخبر بفرعها عن سوء أصلها ، وحسبك واحدا من الأدلّة التي أدليناها عليك في قلع جذور ما ذهب إليه.