المؤلف : اللّطف عبارة أخرى عن قوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) وقوله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) [ الشمس : ٨ ـ ٩ ] وقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) فإنّه تعالى أوجب على نفسه بمقتضى حكمته أن يبيّن لعباده طرق السّعادة والنّجاة وطرق الشقاوة والهلاك ، ويدعوهم إلى الأول وينهاهم عن الثاني ، وليس ذلك علّة تامة لعدم العصيان أو علّة تامة لفعل الطاعة كما توهمه الخصم ، وفي القرآن يقول الله تعالى لعباده : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) [ المائدة : ٣ ] ويقول : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) [ البقرة : ٨٣ ] ويقول : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) [ آل عمران : ٩٧ ] ويقول : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) [ الإسراء : ٣٢ ] ونحو ذلك من الآيات المتضمنة للأحكام الواجبة والمحرّمة فليس معناها أنها قاهرة للمكلّف ومجبرة له على فعل الطاعة وترك المعصية ، فإن ذلك لا يقول به ذو عقل ولا يفهمه من قولهم من له ذرّة من الفهم ، لأن اللّطف الّذي يقولون به هو ما كان من سنخ المقتضي الموقوف تأثيره على إختيار طاعة المكلّف فعل الواجب وترك الحرام ، وليس معنى الواجب ما لا يمكن لأحد تركه ، وليس معنى الحرام ما لا يمكن لأحد فعله.
وبعبارة أخرى أن الأمر والنهي إذا تعلّقا بفعل المكلّف فإنّما يراد بهما الإرادة التشريعية الممكن تخلّفها وليست هي من الإرادة التكوينية التي لا يمكن تخلّفه عنها إطلاقا ، لذا لم يكن فعل المكلّف من لوازم الواجب المأمور به والمحرّم المنهي عنه بحيث لا يمكنه التخلّف عنهما أبدا ، ألا ترى إلى الآلوسي فإنّ الله تعالى قد حرّم عليه الغش والتدليس والظلم والعدوان والكذب والبهتان والقذع والسباب بغير حق ، وأوجب عليه العدل والإنصاف وقبول قول الحقّ ، ومع ذلك تراه قد ارتكب تلك المحرّمات وترك تلك الواجبات ، فلو كان كلّ من الأمر والنهي علّة تامة للترك والفعل لاستحال عليه التخلّف عنهما.
ومن غريب تناقض الآلوسي أنّك تراه يزعم تارة أنّ إرادة الله عامّة لجميع الكائنات كالشرور والمعاصي والفسوق والكفور ، وأخرى يقول إنّ الله تعالى لا يريد الكفر لعباده ولا يرضى لهم الضّلالة أبدا ، ولا شك في أنّ كلّ متناقض مبطل.