أظهر الشواهد على نفي رؤيته في المستقبل مطلقا ، فلا بدّ للآلوسي من أن يدلي بدليل على إمكان جوازها أو وقوعها في المستقبل بحيث يصلح أن يكون مخصّصا لعموم النفي في الآية ، وأنّى له بذلك فإن دون إثباته خرط القتاد (١).
ثالثا : قوله : « فإن العاقل فضلا عن النبيّ لا يطلب المحال ».
فيقال فيه : أيّها القارئ إنّ في علم المعاني والبيان بابا يقال له باب تجاهل العارف ، وهو تنزيل العالم بالشيء نفسه منزلة غير العالم ، وتتمثل العربية : ( وكم سائل عن أمره وهو عالم ) وهو من محاسن الكلام العربي المبين ، وقد نزل به القرآن في كثير من آياته ، واستعمله العرب العاربة مما يضيق المقام عن تعديده.
فسؤال موسى عليهالسلام كان من هذا القبيل ، ومن قبيل قوله تعالى فيما اقتصّه من قول سليمان عليهالسلام : ( ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ) [ النمل : ٢٠ ] وقوله تعالى : ( ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ) [ طه : ١٧ ] فلم يكن سيمان عليهالسلام جاهلا بغيبة الهدهد ولا الجليل جلّ وعلا كان جاهلا بما في يمين موسى عليهالسلام فكذلك موسى عليهالسلام لم يطلب المحال بسؤاله ، وإنما سأل متجاهلا مع عرفانه عدم إمكان المحال.
وهكذا الحال فيما حكاه الله تعالى عن خليله إبراهيم عليهالسلام بقوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) [ البقرة : ٢٦٠ ] فلا يصح أن يقال إن إبراهيم عليهالسلام بسؤاله كان جاهلا بقدرة الله على إحياء الموتى ، أو أنه طلب المحال من تحصيل ما هو حاصل لديه من العلم بعظيم قدرته على مثل ذلك مطلقا.
ثم من المعلوم أن سؤال موسى عليهالسلام مع عرفانه كان لأجل إصرار قومه عليه وطلبهم ذلك منه وتكليفهم له إيّاه ، فأراد بسؤاله أن يؤكد لهم تطبيقيا امتناعه وعمليا عدم إمكانه بقرينة قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) وأنه يمتنع رؤيته مطلقا ، وتلك قضية صيرورة الجبل ترابا وزواله أصلا.
__________________
(١) القتاد شجر له شوك.