ولمّا تقدّم ذكر عباد الله المنيبين إليه ، وصله سبحانه بذكر داود وسليمان ، فإنّهما لإنابتهما إلى الله سبحانه فضّلهما على العالمين بالنبوّة والملك ، وأعطاهما ما أعطاهما من الأمور الدينيّة والسياسة الدنيويّة ، فقال :
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي : على سائر الأنبياء بما ذكر بعد. أو على سائر الناس ، فيندرج فيه النبوّة ، والحكومة ، والكتاب ، والملك ، والصوت الحسن ، وفصل الخطاب ، وغير ذلك من معجزاته.
(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) رجّعي معه التسبيح. من : آب إذا رجع. وذلك بأنّ الله يخلق فيها تسبيحا ، كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود.
وقيل : كان ينوح على ترك ندبه بترجيع وتحزين. وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها (١).
وقيل : معناه : سيري معه حيث سار. وهو بدل من «فضلا» أو من «آتينا» بإضمار : قولنا ، أو قلنا.
(وَالطَّيْرَ) عطف على محلّ الجبال. ويؤيّده قراءة يعقوب بالرفع عطفا على لفظها ، تشبيها للحركة البنائيّة العارضة بحركة الإعراب. أو على «فضلا» بمعنى : وسخّرنا له الطّير. ويجوز أن يكون مفعولا معه لـ «أوّبي». وكان أصل النظم : ولقد آتينا داود منّا فضلا ، تأويب الجبال والطير. فبدّل بهذا النظم. وكم فرق بين النظمين ، من الفخامة الّتي لا يخفى ، من الدلالة على عزّة الربوبيّة وكبرياء الإلهيّة ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الّذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنّه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلّا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، بخلاف الأخير.
__________________
(١) الأصداء جمع الصدى ، وهو ما يردّه الجبل أو غيره إلى المصوّت مثل صوته.