حفظناها من دنوّ كلّ شيطان للاستماع ، فإنّهم كانوا يسترقون السمع ، ويستمعون إلى كلام الملائكة ، ويلقون ذلك إلى ضعفة الجنّ. وكانوا يوسوسون بها في قلوب الكهنة ، ويوهمونهم أنّهم يعرفون الغيب. فمنعهم الله تعالى عن ذلك.
وقوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم. ولا يصحّ أن يكون صفة لـ «كلّ شيطان» لأنّه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون أو لا يتسمّعون. وكذلك الاستئناف ، لأنّ سائلا لو سأل : لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب : بأنّهم لا يسّمّعون ، لم يستقم. ولا أن يكون علّة للحفظ على حذف اللام ـ كما في : جئتك أن تكرمني ـ ثمّ حذف «أن» وإهدارها ، كقوله : ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغا ، فإنّ اجتماع ذلك منكر ، وصون الكلام عن مثل ذلك واجب. فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ ، اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنّهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمّعوا. والضمير لـ «كلّ» باعتبار المعنى.
وتعدية السماع بـ «إلى» لتضمّنه معنى الإصغاء ، مبالغة لنفيه ، وتهويلا لما يمنعهم عن الإصغاء. ويدلّ عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد ، من التسمّع ، وهو تطلّب السماع.
والملأ الأعلى عبارة عن الملائكة ، لأنّهم يسكنون السماوات. والإنس والجنّ هم الملأ الأسفل ، لأنّهم سكّان الأرض.
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء ، إذا قصدوا الصعود إليها للاستماع (دُحُوراً) نصب على العلّيّة ، أي : ويقذفون للدحور (١) (وَلَهُمْ) مع ذلك (عَذابٌ) أي : عذاب آخر (واصِبٌ) دائم يوم القيامة ، أو شديد. يعني : أنّهم في الدنيا مرجومون بالشهب ، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع.
__________________
(١) دحره دحورا : طرده ، وأبعده ، ودفعه.