ثمّ سأله عن غيبته (فَقالَ) في جوابه (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعني : حال سبأ. ومعنى الإحاطة بالشيء علما : أن يعلم من جميع جهاته ، بحيث لا يخفى منه معلوم ، تشبيها بالسور المحيط.
وفي مخاطبته إيّاه بذلك تنبيه له على أنّ في أدنى خلق الله وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر لديه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الّذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة.
وفيه دليل على أنّه يجوز أن يكون في زمن الأنبياء من يعرف ما لا يعرفونه. ولا يقدح ذلك في النّبوة. وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما هو أعلم من أمّته في علوم الشريعة. ومنه قول نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وكذا الامام.
فما قال صاحب الكشّاف من أنّ «فيه دليلا على بطلان قول الرافضة : إنّ الامام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه» (١). محض افتراء ، وافتراء محض ، صادر عن خبث الاعتقاد ، وبيّن العناد على الإماميّة.
(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) قرأ ابن كثير برواية البزّي وأبو عمرو غير منصرف ، على تأويل القبيلة أو البلدة. قال في الكشّاف : «إنّ سبأ في الأصل هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان. فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسما للحيّ أو الأب الأكبر صرف. ثمّ سمّيت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام» (٢). (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) بخبر محقّق.
ثمّ فسّر النبأ فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني : بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريّان. وكان أبوها ملك أرض اليمن كلّها ، وقد ولده أربعون ملكا ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك. والضمير لسبأ ، أو لأهلها.
__________________
(١) الكشّاف ٣ : ٣٥٩.
(٢) الكشّاف ٣ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.