استدل به الأخفش من أنّهما لو كانا اسمين ظرفين لثبات الاسمية لهما إذا ارتفع ما بعدهما ، لوجب إذا نفي الفعل أو أوجب أن ينفى عنهما خاصة ، لأنّ الظرف لا ينفي الفعل عن غيره إذا نفي في نفسه. ألا ترى أنّك إذا قلت : قمت يوم الجمعة ، فالقيام في يوم الجمعة ، وإذا قلت : «ما قمت يوم الجمعة» ، فإنما انتفى القيام عن يوم الجمعة خاصة. فينبغي أن يكون الأمر في «مذ» و «منذ» على هذا التحديد.
وأنت تقول : «ما رأيته مذ يوم الجمعة» ، فالرؤية منتفية عن يوم الجمعة وعما بعد إلى زمن الإخبار. فدلّ ذلك على أنّها ليست بظرف وأنّها حرف ، وانتفى الفعل عما بعدها ، وكذلك حال الحروف. ألا ترى أنّه يقول : «ما رأيته من الكوفة» ، و «ما رأيته من البصرة» ، فانتفت الرؤية عن الكوفة وما بعدها وعن البصرة وما بعدها. وكذلك : «ما سرت من بغداد» ، فنفى السير من بغداد إلى المكان الذي أنت فيه إلى زمن الإخبار.
فثبت أنّهما إذا ارتفع ما بعدهما اسمان ، وإذا انجرّ ما بعدهما حرفان. إلّا أنّ الغالب على «مذ» الاسمية والغالب على «منذ» الحرفية.
وإنما كان الغالب على «مذ» أن تكون اسما ، لأنّها محذوفة من «منذ» ، والحذف تصرّف ، والتصرّف بابه الأسماء لا الحروف.
وكيفية غلبة الاسمية على هذه ، والحرفية على هذه أنّ «مذ» و «منذ» لا يدخلان إلّا على الزمان ، ولا يدخلان منه على مستقبل لما يبيّن بعد إن شاء الله تعالى. وإنما يدخلان منه على الحال والماضي ، فالحال أبدا يكون بعدها مخفوضا.
والحال «الآن» وما في معناها كالساعة والحين واليوم والليلة وكل اسم زمان أضفته إلى نفسك قرب أو بعد ، نحو : «يومنا» ، و «شهرنا» ، و «عامنا» ، وكل اسم أشرت إليه ، نحو : «هذا العام وهذا الشهر وهذه الأيام الثلاثة» ، لأنّك لم تشر إليه إلّا وأنت قد قدّرته حاضرا ، ولم تضفه إلى نفسك إلّا على هذا المعنى. فهذا هو الحال.
ولا يكون أبدا إلّا مخفوضا ، لأنّه لا يمكن أن يتقدّر بخلاف «في» ، فلهذا ألزم الجر.
وأما الماضي فلا يخلو من أن تدخل عليه «مذ» أو «منذ» ، فإن دخلت عليه «منذ» جاز الرفع والجر ، والجرّ أفصح. وإن دخلت عليه «مذ» لم يجز إلّا الرفع في لغة بعض الحجاز.
ومن الناس من أنكر الجر ، ومنهم من زعم أنّه يكون نادرا. فـ «مذ» الغالب عليها أن