يرفع ما بعدها ، لأنّ الحال وإن انجرّ بعدها فهو لفظ قليل محصور فيما ذكرنا. والحال «الآن» وما في معناها ، والماضي لا ينضبط ، و «منذ» الغالب عليها الحرفية لأنّها جارة للحاضر والماضي ، فتبيّن أنّ الغالب على «مذ» الاسمية وأنّ الغالب على «منذ» الحرفية كما قلنا.
وإذا دخلتا على الحال كانتا للغاية بمنزلة «من» في قولك : «أخذته من التابوت» ، ألا ترى أنّ الأخذ كان ابتداؤه وانتهاؤه من الزمان ، فـ «ما رأيته منذ عامنا» ، الرؤية منقطعة في جملة العام.
وإذا دخلت على الماضي فإما أن يكون معدودا أو لا يكون ، فإن كان معدودا فقلت : «ما رأيته منذ يومنا ومنذ ثلاثة أيام» ، فهي أيضا للغاية. وإن دخلت على معرفة ليس بمعدود ، كانت لابتداء الغاية ، تقول : «ما رأيته منذ يوم الجمعة» ، فهي لابتداء الغاية في يوم الجمعة ، فلم يمكن أن ينتهي عدم الرؤية في يوم الجمعة.
وإذا وقع بعدها عدد ، فإنّ العرب تختلف في ذلك ، فمنهم من لا يعتدّ بالناقص أصلا ، وإنّما يعتدّ بالكامل ، فإذا قال : «ما رأيته منذ ثلاثة أيام» ، فلا بدّ أن تكون الثلاثة بجملتها لم يره فيها.
ومنهم من يعتدّ بالناقص الأول ، فإذا رأى شخصا ظهر يوم الجمعة ، ثم انقطعت الرؤية إلى ظهر يوم الاثنين ، قال : «ما رأيته منذ ثلاثة أيام» ، ولم يعتدّ بالناقص الثاني. ومنهم من يعتد بالناقص الثاني ولا يعتدّ بالأول ، فيكون اللفظ واحدا ، ومنهم من يعتدّ بالناقصين : الأول والثاني ، فيقول في هذه المسألة : «ما رأيته منذ أربعة أيام» ، والأقيس الأول ، لأنّ تسمية الناقص يوما مجاز. ومن يعتد بالناقص لا يفعل ذلك إلّا إذا كان ثمّ يوم كامل ، فإن لم يكن ثمّ يوم كامل لم يجز ، لأنّ الكلام كله مجاز.
فلو رأيت شخصا ظهر يوم الجمعة ، ثم انقطعت الرؤية إلى ظهر يوم السبت لم يجز في هذا أن يقال : «ما رأيته منذ يومان ، ولا مذ يوم» ، لأنّه ليس معك يوم كامل ، فإنّما يكون المجاز إذا اختلط بالحقيقة.