وإذا تبيّن أنّ «مذ» الغالب عليها الاسمية ، وأنّ «منذ» الغالب عليها الحرفية ، فينبغي أن تبيّن نسبة اللغات.
فجميع العرب تتكلم بـ «مذ» المحذوفة من «منذ» ، ولا يتكلم بـ «منذ» إلّا أهل الحجاز خاصة. فأهل الحجاز يتكلمون بـ «مذ» و «منذ» وغيرهم لا يعرفون منذ.
ف «مذ» في جميع لغات العرب تجرّ الحال ، وبنو تميم يرفعون بها الماضي ولا يجيزون فيها الجر ، وأهل الحجاز يجرون بها الماضي وبعضهم يرفع بها الماضي. و «منذ» لا يتكلم بها إلّا الحجازيون خاصة فهي عندهم تجرّ الحال ، والماضي عندهم مجرور ، وبعضهم يرفعه ، فحصل بهذا أنّ «مذ» الغالب عليها الاسمية ، لأنّ بني تميم لا يجيزون في الماضي معها إلّا الرفع وبعض الحجازيين يرفع بها. فالغالب فيها الاسمية.
و «منذ» لا يتكلّم بها إلّا الحجازيون ، وهي جارة للحال أبدا ، وتجرّ الماضي عند أكثرهم ، والأقل هو الذي يرفع بها الماضي ، فقد ثبت ما قلنا.
واعلم أنّهما لا يخلو أن يقع قبلهما الفعل المنفيّ أو غيره. فإن كان المنفيّ فلا تفصيل فيه ، وكل منفيّ جائز أن يقع قبلهما ، فتقول : «ما رأيته منذ يومنا ، أو منذ ثلاثة أيام أو منذ يوم الجمعة». وإن وقع قبلهما غير المنفيّ فلا بدّ أن يكون ذلك الفعل متطاولا ممتدا ، وإلّا لم يجز ، فتقول : «سرت مذ يوم الجمعة» ، لأنّ السير متّصل إلى حين الإخبار ، ولو قلت : «قتلت عمرا منذ يوم الجمعة» ، لم يجز لأنّ القتل لا يمتدّ إلى حين الإخبار ، فإن أردت أنّ هذا القتل نوع مما يمتدّ جاز.
وكذلك فيما هو الحال لا يجوز ، فلا يجوز أن تقول : «قتلته مذ يومنا» ، لأنّ معناه : في يومنا ، والقتل لا يمتد في اليوم أجمع ، وإنّما يكون في جزء منه.
وسبب ذلك أنّ «مذ» إنّما تكون أبدا داخلة على ماض أو حال. فالحال يكون فيه بمنزلة «في» ، فيقول : «ما رأيته في يومنا» ، فهو لم يره في جزء من اليوم. وإذا قلت : «سرت مذ يومنا» ، فالسير في جملة اليوم بخلاف قولك : «سرت في اليوم».
فهي مع المنفيّ توافق سائر الظروف من أنّ الفعل لم يقع في جزء من اليوم ومع الموجب تخالف ، لأنّك إذا قلت : «سرت اليوم» ، أمكن أن يكون السير في بعض اليوم ،