فأعمل «ما» مع دخول حرف الإيجاب وهو «إلّا» على الخبر فيتخرّج على وجهين :
أحدهما : أن يكون «منجنونا» اسما موضوعا موضع المصدر الموضوع موضع الفعل الموضوع موضع خبر «ما» ، ويكون تقديره : وما الدهر إلّا يجنّ جنونا بأهله ، ثم حذف «يجنّ» الذي هو خبر «ما» ، وأقام المصدر مقامه الذي هو جنون ، فبقي : وما الدهر إلّا جنون ، كما تقول : «ما أنت إلّا شربا» ، تريد : تشرب شربا. هذا في موضع الكثرة مقيس ، ثم أوقع «منجنونا» موقع «جنون».
والآخر أن يكون «منجنونا» اسما في موضع الحال ، ويكون خبر «ما» محذوفا تقديره : وما الدهر إلّا موجودا على هذه الصفة ، أي : مثل المنجنون وهو السانية ، يريد أنّه لا يستقر على حالة واحدة.
وأما قوله : «وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا» ، فـ «معذّبا» مصدر تقديره : إلّا يعذّب معذّبا ، أي : تعذيبا ، وذلك أنّ كلّ اسم مفعول من فعل زائد على ثلاثة أحرف فإنّه يكون
__________________
الشواهد ص ٢٧١ ؛ والجنى الداني ص ٣٢٥ ؛ وخزانة الأدب ٤ / ١٣٠ ، ٩ / ٢٤٩ ، ٢٥٠ ؛ والدرر ٢ / ٩٨ ، ٣ / ١٧١ ؛ ورصف المباني ص ٣١١ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١٢١ ؛ وشرح التصريح ١ / ١٩٧ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٧٥ ؛ ومغني اللبيب ص ٧٣ ؛ والمقاصد النحوية ٢ / ٩٢ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٢٣ ، ٢٣٠.
شرح المفردات : المنجنون : الدولاب الذي يستقى عليه ، وهو مؤنث.
المعنى : يقول : إنّ الدهر يدور بالناس كما يدور المنجنون ، وأشدّ ما يتعذّب في هذه الحياة هو صاحب الحاجات لكثرة العقبات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق أهدافه.
الإعراب : «وما» : الواو بحسب ما قبلها ، و «ما» : من أخوات «ليس». «الدهر» : اسم «ما» مرفوع. «إلا» : حرف استثناء وحصر. «منجنونا» : خبر «ما» منصوب. «بأهله» : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف نعت لـ «منجنون» ، وهو مضاف ، والهاء ضمير متّصل في محلّ جرّ بالإضافة. «وما» : الواو حرف عطف ، و «ما» : من أخوات «ليس». «صاحب» : اسم «ما» مرفوع ، وهو مضاف ، «الحاجات» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «إلّا» : حرف حصر واستثناء. «معذّبا» : خبر «ما» منصوب.
وجملة «ما الدهر ..» بحسب ما قبلها. وجملة «ما صاحب ..» معطوفة على سابقتها.
الشاهد فيه : إعمال «ما» مع انتقاض خبرها بـ «إلّا» ، وهذا شاذّ ، وخرّج على أنّه بتقدير : وما الدهر إلّا يشبه منجنونا ، وما صاحب الحاجات إلّا يشبه معذّبا ، فهما منصوبان بالفعل الواقع خبرا. وقيل : إن «منجنونا» منصوب على الحال ، والخبر محذوف ، أي : وما الدهر إلّا مثل المنجنون لا يستقرّ على حاله ، وعلى هذا تكون عاملة قبل انتقاض نفيها ، وكذا يكون التقدير في الثاني ، أي : وما صاحب الحاجات موجودا إلّا معذبا ، ولا تقدّر هنا «مثل» ، لأنّ الثاني هو الأوّل.