فقد تقدّم في هذا الباب على «الطائل» ثلاثة عوامل وهي : «سئلت» ، و «تبخل» ، و «تعطي» ، وكل واحد منها يطلبه من جهة المعنى ويمكن إعماله فيه.
وهذا البيت يجوز فيه إعمال الأول والثاني باتفاق من أهل البصرة والكوفة. واختلف في أيّهما أولى بالإعمال ، فالاختيار عند أهل البصرة إعمال الثاني ، والاختيار عند أهل الكوفة إعمال الأول (١).
واحتجّ أهل الكوفة على صحّة مذهبهم بأنّ المتقدّم أولى بالإعمال لاعتناء العرب به وجعله في أول الكلام. ومما يقوّي مذهبهم أن يقولوا : قد وجدنا من كلام العرب أنّه متى اجتمع طالبان وتأخر عنهما مطلوب وكل واحد منهما يطلبه من جهة المعنى ، فإنّ التأثير للمتقدّم منهما.
دليل ذلك القسم والشرط إذا اجتمعا ، فإنّ العرب تبني الجواب على الأول منهما ، وتحذف جواب الثاني لدلالة جواب الأول عليه ، تقول : «إن قام زيد والله يقم عمرو» ، و «والله إن قام زيد ليقومنّ عمرو» ، فكذلك ينبغي أن يكون الاختيار إعمال الأول.
واحتجّوا بأنّ إعمال الثاني يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر في بعض المسائل على مذهبنا أو إلى حذف الفاعل على مذهب الكسائي ، على ما يبيّن بعد إن شاء الله تعالى ، وإعمال الأول لا يؤدي إلى شيء من ذلك ، فلذلك كان إعمال الأول أولى.
وهذا كله لا حجة فيه. أما قولهم : إذا اجتمع طالبان وتأخر عنهما مطلوب ، فإنّ
__________________
طائلا : مفعول به منصوب بالفتحة. فسيان : «الفاء» : للاستئناف ، «سيان» : خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : فالأمر سيان ، مرفوع بالألف والنون لأنه مثنى (سيّ) بمعنى مثل. لا حمد : «لا» : نافية تعمل عمل (ليس) عند الحجازيين ، ومهملة عند التميميين ، «حمد» : مبتدأ مرفوع بالضمة ، أو اسم (لا) مرفوع بالضمّة. لديك : ظرف مكان في محلّ نصب مفعول فيه متعلق بالخبر ، و «الكاف» : ضمير متصل في محلّ جرّ مضاف إليه ، وخبر (لا) [أو خبر المبتدأ] محذوف تقديره (موجودا) [أو موجود]. ولا ذمّ : «الواو» : للعطف ، «لا» : حرف نفي ، «ذمّ» : معطوف على «حمد» مرفوع. إعراب (لا حمد) نفسه.
وجملة «سئلت» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «فلم تبخل» : معطوفة عليها لا محلّ لها. وجملة «ولم تعط» : معطوفة عليها لا محلّ لها. وجملة «الأمر فسيّان ...» : استئنافية لا محلّ لها. وجملة «لا حمد لديك» : استئنافية لا محل لها.
والشاهد فيه قوله : «سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا» حيث تأخر المعمول (طائلا) عن ثلاثة عوامل هي الأفعال قبله.
(١) انظر المسألة الثالثة عشرة في الإنصاف في مسائل الخلاف ص ٨٣ ـ ٩٦.