بصفاء فطرتهم الى ان قومهم على ضلال ، وقالوا : كيف تكون الأحجار آلهة ، وهي لا تغني شيئا؟. وكيف تمنح المترفين القوة والغنى ، وتسلطهم على الضعفاء والمعدمين ـ كما يزعم الأقوياء ـ وهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا؟ .. وانتهى الفتية من هذا الشك والتساؤل الى عقيدة التوحيد والبعث ، ولما علم الله منهم الصدق في النية ، والإخلاص للحق ثبتهم على ايمانهم ، وزادهم بصيرة في أمرهم.
(إِذْ قامُوا). لم يبين سبحانه اين قاموا ، ولذا اختلف المفسرون ، فمن قائل : انهم قاموا بين يدي ملك زمانهم دقيانوس الجبار ، وهو يحاكمهم على ايمانهم بالله ، ومن قائل : انهم قاموا من النوم .. وغير بعيد ان يكون المراد بقيامهم خروجهم على عادات قومهم ، وتمردهم على ما هم فيه من الشرك والفساد .. وهذا هو شعار ثورتهم وتمردهم على عادات قومهم : (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ، هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).
آمن الفتية بالله الواحد الأحد ، وأعلنوا ايمانهم على الملأ ، وقالوا : ان الطغاة من قومهم يفترون الكذب على الله وعلى عقولهم ايضا ، لأنهم أضافوا على الأصنام صفة الآلهة ، وهم يعلمون انها لا تضر ولا تنفع .. ولكنهم يموهون على البسطاء بأن هذه الآلهة هي التي اختارتهم ، ومنحتهم الامتياز والتفوق على الناس ، وان من خالفها في ذلك فلا جزاء له إلا القتل والتعذيب .. بهذا الزعم أراد الطغاة أن يقتلوا الفتية ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ، وكفروا بالأصنام أي بامتياز الطغاة وتفوقهم على المستضعفين.
تنبهت ، وانا اكتب هذه الكلمات ، الى تفسير ظاهرة غريبة برزت في أيامنا ، وهي هذا الجيش العرموم من المعممين الذين لا يمتون بسبب قريب أو بعيد الى الدين واهله .. تنبهت الى أن هناك يدا خبيثة تعمل في الخفاء ، وتضع التصاميم ، وتخصص الأموال لتجنيد المزيفين عن طريق المأجورين والعملاء ، وحشدهم أو حشرهم في صفوف اهل العلم ، فيلبسونهم العمائم ، لا لشيء إلا ليحموا مصالح الطغاة والمستعمرين باسم الدين ، تماما كما اضفى عتاة الشرك صفة الآلهة على الأصنام ليقولوا للبسطاء انها هي التي اختارتهم ، وأعطتهم السلطان والأموال ، وحرمت البؤساء والمستضعفين.