ثم أهوال القيامة والعرض على الله لنقاش الحساب عما قال وفعل (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ). في يحسب ضمير يعود الى الإنسان باعتبار بعض أفراده ، والمعنى ان بعض الناس يظن انه قد بلغ من القوة والمنعة الى حيث لا يقدر عليه أحد كائنا من كان ، وينسى انه خلق ضعيفا ، يقاسي الأهوال والشدائد ، وانه مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة كما قال الإمام على (ع).
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي كثيرا ، ويدل السياق ان في يقول ضميرا يعود الى الغني الذي ينفق أمواله للشهرة وحسن الاحدوثة ، ويمسك عن الإنفاق في سبيل الله والخير ، والمعنى إذا قيل لهذا المبذر : لما ذا لا تنفق في سبيل الله؟ قال : انا أنفق الكثير حتى أوشك مالي على النفاد والهلاك ، ولكني لا أنفقه في السبيل التي تدعونني اليها (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ). أيظن هذا المفتون بالشهرة والظهور ان الله غافل عنه وعن أعماله وأهدافه. وفي الحديث : يسأل المرء غدا عن جسمه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). جاء في تفسير الرازي : ان الذي قال : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) قال أيضا بلسان المقال أو الحال : من الذي يحاسبني على مالي أمسكته أو أنفقته؟. فأجابه سبحانه : يحاسبك الذي جعل لك هذه الأعضاء .. وهذا قريب جدا الى واقع الحال ، ومهما يكن فإن العينين اشارة الى نعمة الرؤية والبصر ، واللسان الى نعمة الكلام والبيان ، والهداية الى نعمة العقل والإدراك ، والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر ، وبالعقل يحذر الإنسان من هذا ، ويسلك ذاك ، وفي نهج البلاغة : «كفاك من عقلك انه أوضح لك سبيل غيك من رشدك». ويتفرع على هذا الإيضاح ان الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله ، وان لله الحجة عليه إذا أساء حيث وهبه القدرة والإدراك وأمره ونهاه. ومثله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ـ ٣ الإنسان.
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ). صيغة ما أدراك تستعمل للتفخيم والتعظيم ، واقتحم الشيء دخل فيه بشدة ، والعقبة في اللغة الطريق الصعب في الجبل ، والمراد بها هنا الأعمال الصالحة لأنها تحتاج الى جهد وجهاد ، وصبر على