والإعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه ؛ فأما الإعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله ، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال.
وحقيقة الإعراض : لفت الوجه عن الشيء لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه.
وحقيقة التولي : الإدبار والانصراف ، وإعراض النبي صلىاللهعليهوسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإرشاد وإلا فإن النبي صلىاللهعليهوسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها ، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون ، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن ، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال.
وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) في سورة الأنعام [١٠٦] ، فضم إليه ما هنا.
وما صدق (مَنْ تَوَلَّى) القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ (مَنْ) ألا ترى قوله : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ) بضمير الجمع.
وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار فقيل (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) دون : فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولّي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه.
والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن.
ومعنى (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) كناية عن عدم الإيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادوها ولو ببعض أعمالهم.
وجملة (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) اعتراض وهو استئناف بياني بيّن به سبب جهلهم بوجود الحياة الآخرة لأنه لغرابته مما يسأل عنه السائل وفيه تحقير لهم وازدراء بهم بقصور معلوماتهم.