يغفر لهم بعد أن قدّموا من التهجد ما يرجون أن يزلفهم إلى رضى الله تعالى. وهذا دل على أن هجوعهم الذي يكون في خلال الليل قبل السحر. فأما في السحر فهم يتهجدون ، ولذلك فسر ابن عمر ومجاهد الاستغفار بالصلاة في السحر. وهذا نظير قوله تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧] ، وليس المقصود طلب الغفران بمجرد اللسان ولو كان المستغفر في مضجعه إذ لا تظهر حينئذ مزية لتقييد الاستغفار بالكون في الأسحار.
والأسحار : جمع سحر وهو آخر الليل. وخص هذا الوقت لكونه يكثر فيه أن يغلب النوم على الإنسان فيه فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى. وجمع الأسحار باعتبار تكرر قيامهم في كل سحر.
وتقديم (بِالْأَسْحارِ) على (يَسْتَغْفِرُونَ) للاهتمام به كما علمت.
وصيغ استغفارهم بأسلوب إظهار اسم المسند إليه دون ضميره لقصد إظهار الاعتناء بهم وليقع الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي فيفيد تقوّي الخبر لأنه من الندرة بحيث يقتضي التقوية لأن الاستغفار في السحر يشقّ على من يقوم الليل لأن ذلك وقت إعيائه. فهذا الإسناد على طريقة قولهم : هو يعطي الجزيل.
وحق السائل والمحروم : هو النصيب الذي يعطونه إياهما ، أطلق عليه لفظ الحق ، إمّا لأن الله أوجب على المسلمين الصدقة بما تيسّر قبل أن يفرض عليهم الزكاة فإن الزكاة فرضت بعد الهجرة فصارت الصدقة حقا للسائل والمحروم ، أو لأنهم ألزموا ذلك أنفسهم حتى صار كالحق للسائل والمحروم. وبذلك يتأوّل قول من قال : إن هذا الحق هو الزكاة. والسائل : الفقير المظهر فقره فهو يسأل الناس ، والمحروم : الفقير الذي لا يعطى الصدقة لظن الناس أنه غير محتاج من تعففه عن إظهار الفقر ، وهو الصنف الذي قال الله تعالى في شأنهم (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي ولا يسأل الناس إلحافا».
وإطلاق اسم المحروم ليس حقيقة لأنه لم يسأل الناس ويحرموه ولكن لما كان مآل أمره إلى ما يؤول إليه أمر المحروم أطلق عليه لفظ المحروم تشبيها به في أنه لا تصل إليه ممكنات الرزق بعد قربها منه فكأنه ناله حرمان.
والمقصود من هذه الاستعارة ترقيق النفوس عليه وحثّ الناس على البحث عنه ليضعوا صدقاتهم في موضع يحب الله وضعها فيه ونظيرها في سورة المعارج. قال ابن