قولهم : دان السلطان الرعية ، إذا ساسهم ، أي غير مربوبين وهو بعيد عن السياق.
واعلم أن قوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) فرض وتقدير ف (إِنْ) فيه بمنزلة (لو) ، أي لو كنتم غير مدينين ، أي غير مجزيين على الأعمال.
وأسند فعل (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) إلى المخاطبين بضمير المخاطبين ، دون أن يقول : إن كان الناس غير مدينين لأن المخاطبين هم الذين لأجل إنكارهم البعث سيق هذا الكلام. والمعنى : لو كنتم أنتم وكان الناس غير مدينين لما أخرجت الأرواح من الأجساد إذ لا فائدة تحصل من تفريق ذينك الإلفين لو لا غرض سام ، وهو وضع كل روح فيما يليق بها من عالم الخلود جزاء على الأعمال ، ولذلك أوثر لفظ (غَيْرَ مَدِينِينَ) دون أن يقال : غير مبعوثين ، أو غير معادين ، وإن كان لا يلزم من نفي الإدانة نفي البعث فإنه يجوز أن يكون بعث بلا جزاء لكن ذلك لا يدعى لأنه عبث.
فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) إيماء إلى أن الغرض من سوق هذا الدليل إبطال إنكارهم البعث الذي هو لحكمة الجزاء.
ومن مستتبعات هذا الكلام أن يفيد الإيماء إلى حكمة الموت بالنسبة للإنسان لأنه لتخليص الأرواح من هذه الحياة الزائلة المملوءة باطلا إلى الحياة الأبدية الحق التي تجري فيها أحوال الأرواح على ما يناسب سلوكها في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] فيقتضي أنه لو لا أنكم مدينون لما انتزعنا الأرواح من أجسادها بعد أن جعلناها فيها ولأبقيناها لأن الروح الإنساني ليس كالروح الحيواني ، فتكون الآية مشتملة على دليلين : أحدهما بحاقّ التركيب ، والآخر بمستتبعاته التي أومأ إليها قوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ). والغرض الأول هو الذي ذيل بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
هذا تفسير الآية الذي يحيط بأوفر معانيها دلالة واقتضاء ومستتبعات. وجعل في «الكشاف» معنى الآية يصب إلى إبطال ما يعتقده الدهريون ، أي الذين يقولون (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ، لأنهم نفوا أن يكونوا عبادا لله. وجعل معنى (مَدِينِينَ) مملوكين لله ، وبذلك فسره الفراء وقال ابن عطية : «إنه أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا ، ومن عبر بمجازى أو بمحاسب ، فذلك هنا قلق». وقلت : في كلامه نظر ظاهر.