بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩))
استئناف ثالث انتقل به الخطاب إلى المؤمنين ، فهذه الآية يظهر أنها مبدأ الآيات المدنية في هذه السورة ويزيد ذلك وضوحا عطف قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحديد : ١٠] الآيات كما سيأتي قريبا.
والخطاب هنا وإن كان صالحا لتقرير ما أفادته جملة (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) [الحديد : ٨] ولكن أسلوب النظم وما عطف على هذه الجملة يقتضيان أن تكون استئنافا انتقاليا هو من حسن التخلص إلى خطاب المسلمين ، ولا تفوته الدلالة على تقرير ما قبله لأن التقرير يحصل من انتساب المعنيين : معنى الجملة السابقة ، ومعنى هذه الجملة الموالية.
فهذه الجملة بموقعها ومعناها وعلتها وما عطف عليها أفادت بيانا وتأكيدا وتعليلا وتذييلا وتخلصا لغرض جديد ، وهي أغراض جمعتها جمعا بلغ حد الإعجاز في الإيجاز ، مع أن كل جملة منها مستقلة بمعنى عظيم من الاستدلال والتذكير والإرشاد والامتنان.
والرءوف : من أمثلة المبالغة في الاتصاف بالرأفة وهي كراهية إصابة الغير بضر.
والرحيم : من الرحمة وهي محبة إيصال الخير إلى الغير.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم (لَرَؤُفٌ) بواو بعد الهمزة على اللغة المشهورة. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بدون واو بعد الهمزة وهي لغة ولعلها تخفيف ، قال جرير :
يرى للمسلمين عليه حقا |
|
كفعل الوالد الرّءوف الرحيم |
وتأكيد الخبر ب (إِنَ) واللام في قوله : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لأن المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام قد حسبوها إساءة لهم ولآبائهم وآلهتهم ، فقد قالوا : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤١ ، ٤٢]. وهذا يرجح أن قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الحديد : ٧] إلى هنا مكّي. فإن كانت الآية مدنيّة فلأن المنافقين كانوا على تلك الحالة.
(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ