وقد قيل : إنهم ابتدعوا الرهبانية للانقطاع عن جماعات الشرك من اليونان والروم وعن بطش اليهود ، وظاهر أن ذلك طلب لرضوان الله كما حكى الله عن أصحاب الكهف (إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف : ١٦].
وفي الحديث : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن» ، وعليه فيكون تركهم التزوج عارضا اقتضاه الانقطاع عن المدن والجماعات فظنه الذين جاءوا من بعدهم أصلا من أصول الرهبانية.
وأما ترك المسيح التزوج فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله ، وليس ترك التزوج من شئون النبوءة فقد كان لجميع الأنبياء أزواج قال تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) [الرعد : ٣٨].
وقيل : إن ابتداعهم الرهبانية بأنهم نذروها لله وكان الانقطاع عن اللذائذ وإعنات النفس من وجوه التقرب في بعض الشرائع الماضية بقيت إلى أن أبطلها الإسلام في حديث النذر في «الموطأ» «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأى رجلا قائما في الشمس صامتا فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل وأن يصوم يومه فقال : مروه فليتكلم وليستظل وليتمّ صومه إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني». وقد مضى في سورة مريم [٢٦] قوله تعالى : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ولا تنافي بين القولين لأن أسباب الرهبانية قد تتعدد باختلاف الأديان.
وقد فرع على قوله : (ابْتَدَعُوها) و (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) وما بعده قوله : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فترتب على التزامهم الرهبانية أنهم ، أي الملتزمين للرهبانية ما رعوها حق رعايتها. وظاهر الآية أن جميعهم قصروا تقصيرا متفاوتا ، قصروا في أداء حقها ، وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به.
والرعي : الحفظ ، أي ما حفظوها حق حفظها ، واستعير الحفظ لاستيفاء ما تقتضيه ماهية الفعل ، فالرهبانية تحوم حول الإعراض عن اللذائذ الزائلة وإلى التعود بالصبر على ترك المحبوبات لئلا يشغله اللهو بها عن العبادة والنظر في آيات الله ، فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها.
و (حَقَّ رِعايَتِها) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي رعايتها الحق.
وحق الشيء : هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه ، وهو منصوب على المفعول