من البشر لكان الأحقّ بالرسالة رجلا عظيما من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] يعنون قرية مكة وقرية الطائف.
والمعنى : إبطال أن يكون لهم تصرف في شئون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبر فيما وكل عليه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوءة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاءون ويمنعون من يشاءون.
والخزائن : جمع خزينة وهي البيت ، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات ، أو المال وما هو نفيس عند خازنه ، وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [يوسف : ٥٥]. وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات ، ومنه اصطفاء من هيّأه من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر ، وقد تقدم في سورة الأنعام [٥٠] قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) قال تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤]. وقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص : ٦٨].
وقد سلك معهم هنا مسلك الإيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) ، لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسولصلىاللهعليهوسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم : كاهن ، ومجنون ، وشاعر إلخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردّت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله.
فقوله تعالى هنا : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) هو كقوله في سورة ص [٨ ، ٩] (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) وقوله في سورة الزخرف [٣٢] (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ).
وكلمة «عند» تستعمل كثيرا في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] ، فالمعنى : أيملكون خزائن ربك ، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة (خَزائِنُ) إلى (رَبِّكَ) على نحو (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) [النجم : ٣٥]. وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء : ١٠٠].