وإن قيل : إنه بحروف ، وأصوات. لا كحروفنا ، وأصواتنا ؛ فحاصله يرجع إلى المنازعة في الإطلاق اللفظى.
ولا يخفى أن جواز إطلاق ذلك ؛ موقوف على ورود الشرع به ، والشرع وإن ورد بإطلاق الحروف والأصوات ، كما سبق ؛ فلا نسلم أنه ورد بذلك في الكلام النفسانى ، حتى يقال بجوازه.
وأما ما ذكروه من النصوص ، والإجماع ؛ فقد سبق جوابه في المسلك الأول.
وإذا ثبت (١) أنه متصف بصفة الكلام ، وأن كلامه قديم ـ على ما سبق ـ وأنه ليس بحرف ، ولا صوت ؛ فهو متحد ، لا كثرة فيه في نفسه ؛ بل التكثر إنما هو في تعلقاته ، ومتعلقاته ؛ كما سلف.
فإن قيل : عاقل ما لا يمارى نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ، ونهى ، وغيره ، من أقسام الكلام. وأن ما انقسم إليه حقائق مختلفة ، وأمور متمايزة ، وأنها من أخص أوصاف الكلام. لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات ، والتعلقات ، والمتعلقات ودفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما.
وأيضا : فإن ما أخبر عنه من القصص الماضية ، والأمور السالفة مختلفة متمايزة. وكذلك المأمورات ، والمنهيات ؛ مختلفة أيضا ؛ فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى (٢) ـ عليهالسلام ؛ هو نفس الخبر عما جرى لعيسى عليهالسلام (٢) ، ولا الأمر بالصلاة ؛ هو نفس الأمر بالزكاة ، وغيرها ، ولا أن ما تعلق بزيد ، هو نفس ما تعلق بعمرو ، ولا ما سمى خبرا هو نفس ما سمى أمرا ؛ إذ الأمر طلب ، والخبر لا طلب فيه ؛ بل حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا ، أو سلبا ؛ فثبت أن الكلام أنواع مختلفة ، والكلام عام للكل ؛ فيكون كالجنس لها.
قلنا : قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ، ومعلوم واحد ، قائم بالنفس. وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات ، وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى أخص صفة الكلام ، بل إلى أمر خارج عنه.
__________________
(١) من أول قول الآمدي «وإذا ثبت أنه يتصف بصفة الكلام ... الخ نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٥ ـ ١١٩) ثم علق عليه وناقشه من وجهة نظره.
(٢) وردت في (ب) مقدما عيسى على موسى وفي (أ) بدون ألفاظ التعظيم وقد ذكرتها تأدبا مع مقام النبوة.