صارت المعقولات مشاهدة ، والشعور بها حضوراً ، والعلم عيناً ، والإدراك رؤية عقلية ، فكان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم وأفضل من كلّ خير وسعادة ، وقد عرفت أنّ اللذيذ بالحقيقة هو الوجود وخصوصاً الوجود العقلي لخلوصه عن شوب العدم ، وخصوصاً المعشوق الحقيقي والكمال الأتم الواجبي لأنّه حقيقة الوجود المتضمنة لجميع الجهات الوجودية ، فالالتذاذ به هو أفضل اللذات وأفضل الراحات بل هي راحة التي لا ألم معها. (١)
وقد تحصل من كل ذلك أنّ المانع من المشاهدات واللّذات العقلية هو تعلّق الإنسان بالبدن والخلود إلى الأرض ، فإذا تخلّص منه حينها يفسح له المجال لدرك هذا النوع من الجزاء.
ويمكن أن يقال : إذا كان المانع من نيل هذه الدرجات هو تعلّق النفس بالبدن فهذا النوع من التعلّق موجود في النشأة الآخرة لما عرفت من أنّ المعاد عنصري لا مثالي ؟
والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، لأنّ البدن المحشور وإن كان عنصرياً ولكنّه أكمل وألطف من البدن الدنيوي فلا يكون مانعاً عن نيل ذلك النوع من الجزاء.
على أنّك وقفت على اختلاف التعلّقين ، فتعلق النفس بالبدن في هذه النشأة لغاية التدبير ولكن تعلّقه في النشأة الأُخرىٰ استخدامه لأجل نيل الجزاء الحسي.
وهناك احتمال ثالث يذكره المتكلّم الطائر الصيت الفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٨ ه ) وهو أنّ النفس بعد انفكاكها عن البدن تتقوىٰ في عالم البرزخ في الفترة بين الموت والحشر ، فبعد التعلّق بالبدن يكون استعدادها أقوى لتقبل
__________________
١. الأسفار : ٩ / ١٢٥.