أوّلاً من هذه المواد الطبيعية ، والأركان لا يوجد في هذا العالم الأدنىٰ ، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى وفيها الغاية والمنتهى ، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية من الجمادية والنباتية والحيوانية وبلغ أشدّه الصوري وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني فلابدّ أن يتوجّه نحو النشأة الآخرة ، ويخرج من القوة إلى الفعل ، ومن الدنيا إلى الأُخرى ، ثمّ المولىٰ وهو غاية الغايات منتهى الأشواق والحركات. (١)
الربّ في اللغة بمعنى الصاحب ، يقال : « ربّ الدار » و « رب الضيعة » وشأن الرب هو تدبير المربوب وإيصاله إلى الكمال وصيانته عن الزوال كما هو حال صاحب الدار والضيعة ، وبذلك يعلم انّ الربوبية غير الخالقية ، فالثانية هي مرحلة الإيجاد والإنشاء ، وأمّا الأُولى فهي مرحلة المحافظة على المُنشأ وتربيته وسوقه إلى الكمال.
وحيث إنّ حقيقة الربوبية والمربوبية في الإنسان تتجلّىٰ في كونه عبداً لله تبارك وتعالىٰ ، وشأن العبد هو الإطاعة بما أمر ونهىٰ عنه والتجنّب عن معصيته ومخالفته ، ولا ينفك ذلك عن يوم يحاسب فيه العبد حتى يتجلّى مدىٰ إطاعته وامتثاله ، ولذلك نرى أنّه سبحانه حينما يخبر عن لقاء الإنسان يوم القيامة يؤكد علىٰ ربوبيته ويقول : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (٢) فكأنّ مقتضى الربوبية مثول العبد أمام الله تبارك وتعالى في يوم يحاسب فيجزى حسب ما عمل ، وقال سبحانه : ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي
__________________
١. الأسفار : ٩ / ١٥٩.
٢. الانشقاق : ٦.