الوجه الثاني : لو كان المراد ما ذكره ، لكان اللازم أن يقول : « ثمّ اجعل علىٰ كلّ جبل منهنَّ واحداً » بدل أن يقول : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ).
الوجه الثالث : انّ لفظة ( فَصُرْهُنَّ ) إمّا من « صيّر » بمعنى الميل والأُنس ، فعندئذٍ يكون الأمر بالقطع مقدراً ، فكأنّه يقول : « أملهنَّ إليك ثمّ اقطعهنَّ ».
أو من « صرىٰ » بمعنى القطع ، فعندئذ تكون متضمنة معنى الميل ، فكأنّه يقول : اقطعهنّ متمايلات إليك ، كتمايل كلّ طير إلىٰ صاحبه.
وعلى كلّ حال فالآية تدل صراحة على أنّ إبراهيم قطعهنّ وخلط أجزاءهنّ ، ثمّ فرقها على الجبال ، ثمّ دعاهنّ ، فأتينّه سعياً.
يحكي الذكر الحكيم انّ رجلاً صالحاً مرّ علىٰ قرية خاوية وقد سقطت سقوفها فتساءل في نفسه كيف يحيي الله أهلها بعد ما ماتوا ؟ ولم يقل ذلك إنكاراً ولا ارتياباً ، بل أحبَّ أن يريه الله إحياءها مشاهدة مثل قول إبراهيم ، فأماته الله مائة سنة ثمّ أحياه ، فسمع نداءً ( كَمْ لَبِثْتَ ) فقال : ( لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) لأنّ الله أماته في أوّل النهار وأحياه بعد ـ مائة سنة ـ في آخر النهار ، فقال : (يَوْمًا ) ثم التفت فرأىٰ بقية من الشمس ، فقال : ( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فوافاه النداء : ( بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) فانظر إلى طعامك وشرابك لم تغيره السنون ، ثمّ أمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه وتبدّدت عظامه ، فجعل الله سبحانه إحياءه آية للناس وحجّة في البعث. ثمّ جمع الله عظام حماره وكساها لحماً وأحياه.
يقول سبحانه : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ
__________________
١. المعروف انّ المحيىٰ هو عزير ، ولكن ليس في الآية دليل عليه ، وما يدل عليه هو انّ السائل كان رجلاً صالحاً ، وأمّا انّه هو عزير فلا نقطع به.