به الناس من تعقل وتدبر للأمور ، لأن لفظ الدواب وإن كان يطلق على الناس ، إلا أنه عند إطلاقه عليهم يلقى ظلا خاصا يجعل العقول تتجه إلى أن هؤلاء الذين أطلق عليهم اللفظ هم إلى الدواب التي لا تعقل أقرب منهم إلى الآدميين العقلاء ، وفي وصفه ـ سبحانه ـ لهم بأنهم شر الدواب زيادة توبيخ لهم ، لأنهم ليسوا دواب فحسب بل هم شرها وأخسها.
وقوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تذييل جيء به على وجه الاعتراض بالبيان أى : أنهم ـ بسبب إصرارهم على الكفر ـ صار الإيمان بعيدا عنهم ، وأنهم سواء أنذروا أو لم ينذروا مستمرون في الضلال والعناد.
وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ..) بدل من الموصول الأول وهو قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أو عطف بيان له.
أى : إن شر الدواب عند الله الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه ، الذين (عاهَدْتَ مِنْهُمْ) أى : أخذت منهم عهدهم ، ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون أن يفوا بعهودهم ولو مرة واحدة من المرات المتعددة.
فقوله : (عاهَدْتَ) مضمن معنى الأخذ ، ولذا عدى بمن.
قال الآلوسى : قوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ..) بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان ، أو نعت ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو نصب على الذم ، وعائد الموصول قيل : ضمير الجمع المجرور ، والمراد : عاهدتهم ، ومن للإيذان بأن المعاهدة ـ التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين ـ معتبرة هنا من حيث أخذه صلىاللهعليهوسلم ، إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض ، لا إعطاؤه ـ عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل : الذين أخذت منهم عهدهم ، وقال أبو حيان : تبعيضية ، لأن المباشر بعضهم لا كلهم ..» (١).
وقوله : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) معطوف على الصلة.
وكان العطف «بثم» المفيدة للتراخي ، للإيذان بالتفاوت الشديد بين ما أخذ عليهم من عهود ، وبين ما تردوا فيه من نقض لها ، واستهانة بها.
وجيء بصيغة المضارع (يَنْقُضُونَ) المفيدة للحال والاستقبال ، للدلالة على تعدد النقض وتجدده ، وأنهم على نيته في كل مرة يعاهدون فيها غيرهم.
وقوله : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) في موضع الحال من فاعل (يَنْقُضُونَ).
أى : أن هؤلاء القوم دأبهم نقض العهود والمواثيق في كل وقت ، ومع ذلك فحالهم وشأنهم
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٢٢.