ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن ـ الذي زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله ـ قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين.
والذي نعتقده أن قولهم هذا ، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كانوا يشنونها على الدعوة الإسلامية ، بقصد تضليل البسطاء ، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب ، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين.
ولكنهم لم يفلحوا. فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة ، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصارا حتى من أعدائه ، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم : «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر .. وما يقول هذا بشر».
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ..) : نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة ، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة ...» (١).
ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركي قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق. فتقول : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ..
وقائل هذا القول : النضر بن الحارث صاحب القول السالف (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ..) ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير.
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام. وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا صلىاللهعليهوسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء (٢).
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق .. بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢١٦ وقوله : «نفاجة» أى : تكبر ، والصلف : الغرور ومجاوزة الحد. والراعدة السحابة وهذا مثل يضرب للرجل يتوعد ثم لا يعمل شيئا.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٩٩.