ثم أوجب ـ سبحانه ـ على المؤمنين مصاحبة رسولهم صلىاللهعليهوسلم في غزواته فقال : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ...).
والمراد بالنفي هنا النهى. أى : ليس لأهل المدينة أو لغيرهم من الأعراب سكان البادية الذين يسكنون في ضواحي المدينة ، كقبائل مزينة وجهينة وأشجع وغفار.
ليس لهؤلاء جميعا أن يتخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا ما خرج للجهاد ، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك ، لأن هذا التخلف يتنافى مع الإيمان بالله ورسوله.
وليس لهم كذلك «أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه» أى ليس لهم أن يؤثروا أنفسهم بالراحة على نفسه ، بأن يتركوه يتعرض للآلام والأخطار. دون أن يشاركوه في ذلك ، بل من الواجب عليهم أن يكونوا من حوله في البأساء والضراء ، والعسر واليسر ؛ والمنشط والمكره.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها ، فإذا تعرضت ـ مع كرامتها وعزتها ـ للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت ـ أى تتساقط ـ فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيمون لها وزنا ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وهذا نهى بليغ ، مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية» (١).
واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ..) يعود على ما دل عليه الكلام من وجوب مصاحبته وعدم التخلف عنه.
أى : ذلك الذي كلفناهم به من وجوب مصاحبته صلىاللهعليهوسلم والنهى عن التخلف عنه ، سببه أنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أى عطش (وَلا نَصَبٌ) أى : تعب ومشقة (وَلا مَخْمَصَةٌ) أى : مجاعة شديدة تجعل البطون خامصة ضامرة (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : في جهاد أعدائه وإعلاء كلمة الحق (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أى : ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بأرجلهم أو بحوافر خيولهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم .. (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أى : ولا يصيبون من عدو من أعدائهم إصابة كقتل أو أسر أو غنيمة.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢١.