ثم نعى ـ سبحانه ـ على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم .. فقال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ..) والنسيء : مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشيء إذا أخره. ومنه نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه : أنسأ الله في أجل فلان ، أى : أخره والمراد به : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال :
«كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر ـ وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ـ حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ؛ فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين (١).
والمعنى : إنما النسيء الذي يفعله المشركون ، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر ، (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أى : زيادة في كفرهم ؛ لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر ، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع.
قال القرطبي : وقوله : (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر ، فإنها أنكرت وجود الباري ـ تعالى ـ فقالت : (وَمَا الرَّحْمنُ) في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ، وأنكرت بعثة الرسل فقالوا : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهوانها فأحلت ما حرمه الله : ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون» (٢).
وقوله (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.
أى : يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسيء في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم.
وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.
أى : يضل الله الذين كفروا ، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسيء.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٩.