ثم ختم سبحانه ـ نداءاته للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبل الخير والفلاح فقال ـ سبحانه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
والفرقان في كلام العرب ـ كما يقول ابن جرير ـ مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفرقانا ـ أى أفرق وأفصل بينهما.
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عند تأويل قوله (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فقال بعضهم : يجعل لكم مخرجا. وقال بعضهم نجاة ، وقال بعضهم فصلا وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم .. وكل ذلك متقارب المعنى ، وإن اختلفت العبارة ..» (١).
وقال الآلوسى : (فُرْقاناً) أى : هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل ـ كما روى عن ابن جريج وابن زيد ـ أو نصرا يفرق به بين الحق والباطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ـ كما قال الفراء ـ أو نجاة في الدارين ـ كما هو كلام السدى ـ أو مخرجا من الشبهات ـ كما جاء عن مقاتل ـ أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم ـ كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق ـ من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أى الصبح. وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين. وجوز البعض من المحققين الجمع بينها» (٢).
ونحن مع هذا البعض من المحققين في جواز الجمع بين هذه المعاني فيكون المعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وتطيعوه في السر والعلن (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أى هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ونصرا تعلو به كلمتكم على كلمة أعدائكم ، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس ، ونجاة مما تخافون ، .. وفضلا عن كل ذلك فإنه ـ سبحانه ـ يكفر عنكم سيئاتكم ، أى يسترها عليكم في الدنيا ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أى : ويغفر لكم يوم القيامة ما فرط منكم من ذنوب بلطفه وإحسانه وقوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل قصد به التعليل لما قبله ، والتنبيه على أن ما وعد به ـ سبحانه ـ المؤمنين على تقواهم إنما هو تفضل منه لهم ، فهو ـ سبحانه ـ صاحب العطاء الجزيل ، والخير العميم. لمن أطاعه واتقاه ، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه.
فأنت ترى أنه ـ سبحانه ـ قد رتب على تقواه وعلى الخوف منه نعما عظمى ، ومننا كبرى ، وأى نعم يتطلع إليها المؤمنون أفضل من هداية القلوب وتكفير الخطايا والذنوب؟.
اللهم لا تحرمنا من هذه النعم والمنن بفضلك وإحسانك ، فأنت وحدك صاحب العطاء العميم ، وأنت وحدك ذو الفضل العظيم ، وأنت وحدك على كل شيء قدير.
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٢٤ ـ بتصرف وتلخيص.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٩٦.