قال القرطبي : وخص ـ سبحانه ـ الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية ، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء : يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال نعم. «صلى أمك» (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) قيد في النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب : طلب المحبة : يقال : استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.
أى : لا تتخذوهم أولياء إن اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا على شركهم وباطلهم .. أما إذا أقلعوا عن ذلك ودخلوا في دينكم ، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.
وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.
أى : ومن يتولهم منكم في حال استحبابهم الكفر على الإيمان ، فأولئك الموالون لهم هم الظالمون لأنفسهم ، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها ، وتجاوزوا حدود الله التي نهاهم عن تجاوزها ، وسيجازيهم ـ سبحانه ـ على ذلك بما يستحقونه من عقاب.
ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يعلن للناس هذه الحقيقة : وهي أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ) يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين : (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الذين أنتم بضعة منهم ، (وَأَبْناؤُكُمْ) الذين هم قطعة منكم (وَإِخْوانُكُمْ) الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم (وَأَزْواجُكُمْ) اللائي جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة (وَعَشِيرَتُكُمْ) أى : أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أى : اكتسبتموها فهي عزيزة عليكم.
وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب مطلقا :
(وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) أى : تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الإيمان.
يقال : كسد الشيء من باب نصر وكرم. كسادا وكسودا ، إذا قل رواجه وربحه. (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أى : ومنازل تعجبكم الإقامة فيها.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٨ الآية ٩٤.