المنامة لأنها ينام فيها ، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية ، وإليه ذهب البلخي. ولا يخفى ما فيه ، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى. ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه .. على أن الروايات الجمة برؤيته صلىاللهعليهوسلم إياهم مناما ، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر .. ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة ، فإنه الفصيح العالم بكلام العرب (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ...) معطوف على ما قبله وهو قوله (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ....) وذلك لتأكيد الرؤيا المنامية بالرؤية في اليقظة.
والمعنى : واذكروا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن التقيتم مع أعدائكم وجها لوجه في بدر ، فكان من فضل الله عليكم قبل أن تلتحموا معهم أن جعل عددهم قليلا في أعينكم وجعل عددكم قليلا في أعينهم ، وذلك لإغرائهم على خوض المعركة.
أما أنتم فتخوضونها بدون مبالاة بهم لقلتهم في أعينكم ، ولثقتكم بنصر الله إياكم ..
وأما هم فيخوضونها معتمدين على غرورهم وبطرهم وقلتكم في أعينهم ، فيترتب على ذلك أن يتركوا الاستعداد اللازم لقتالكم ، فتكون الدائرة عليهم ..
قال ابن مسعود ـ وهو ممن حضر بدرا ـ : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفا (٢).
وقال أبو جهل ـ في ذلك اليوم وقبل الالتحام ـ : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ـ أى هم قليل يشبعهم لحم ناقة واحدة ـ خذوهم أخذا أو اربطوهم بالحبال ..
وقد أجاد صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية حيث يقول : قوله (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الضميران مفعولان يعنى : وإذ يبصركم إياهم. و (قَلِيلاً) حال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا .. (٣) فإن قلت : الغرض من تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض من تقليل المؤمنين في أعينهم؟
قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترؤوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، وتقل شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٨.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٩ ص ١٣.
(٣) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٣.