قال الفخر الرازي : قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوى سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (١).
ثم قال الرازي : وأقول : إن هذا الكلام يوهم أن قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها : وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء» (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض مظاهر رحمته بالمؤمنين : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
والمراد بالكتاب هنا : الحكم ، وأطلق عليه كتاب لأن هذا الحكم مكتوب في اللوح المحفوظ.
وللمفسرين أقوال في تفسير هذا الحكم السابق في علم الله ـ تعالى ـ :
فمنهم من يرى أن المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب المخطئ في اجتهاده.
وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره لهذه الآية بهذا الرأى فقال قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ). أى : لو لا حكم منه سبق إثباته في اللوح المحفوظ ، وهو أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب أحدا بخطإ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد ، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، وأفل لشوكتهم ..» (٣).
ومنهم من يرى أن المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب قوما إلا بعد تقديم النهى عن الفعل ولم يتقدم نهى عن أخذ الفداء.
ومنهم من يرى أن المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذبهم ما دام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينهم.
أو أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا.
وقد ساق الإمام الرازي هذه الأقوال وناقشها ثم اختار أن المراد بالكتاب الذي سبق : هو حكمه ـ سبحانه ـ في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه.
__________________
(١) سورة محمد ـ عليهالسلام ـ الآية ٥.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٣ ص ٢٠٢.
(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٧.