ثم بين لهم ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكرا له ، وطاعة لأمره فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، أى يوم بدر. روى أن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما صدروا عن بدر.
ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال : قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده ...» (١).
وقال ابن كثير : قال على بن طلحة عن ابن عباس : رفع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يديه ـ يعنى يوم بدر ـ فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ، فقال جبريل : «خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم» فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
وقال السدى : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعلى يوم بدر «أعطنى حصا من الأرض» فناوله حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ..).
وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه» ، فدخلت في أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٢).
وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله ـ تعالى ـ (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) المقصود به رميه صلىاللهعليهوسلم لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر ، أو رميه المشركين في غزوة حنين.
قال ابن كثير : وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر ... وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٨٤.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٥.