بقدرته ، ورباهم بنعمته ، فيفوضون أمورهم كلها إليه وحده ـ سبحانه ـ لا إلى أحد سواه ، كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله.
ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : أى : أنهم لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ولهذا قال سعيد بن جبير : «التوكل على الله جماع الإيمان» (١).
ومن الواضح عند ذوى العقول السليمة أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب التي شرعها ـ سبحانه ـ بل إن الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها لبلوغ الغايات ، لدليل على قوة الإيمان ، وعلى حسن طاعته ـ سبحانه ـ فيما شرعه وفيما أمر به.
وليس من الإيمان ولا من العقل ولا من التوكل على الله أن ينتظر الإنسان ثمارا بدون غرس ، أو شبعا بدون أكل ، أو نجاحا بدون جهد ، أو ثوابا بدون عمل صالح.
إنما المؤمن العاقل المتوكل على الله ، هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله لبلوغ الأهداف مباشرة سليمة .. ثم بعد ذلك يترك النتائج له ـ سبحانه ـ يسيّرها كيف يشاء ، وحسبما يريد ..
أما الصفتان الرابعة والخامسة من صفات هؤلاء المؤمنين فهما قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).
والمراد بإقامة الصلاة : أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها ـ من أقام الشيء إقامة إذا قومه وأزال عوجه لأن الشأن في صلاة المؤمنين أن تكون : إحساسا عميقا بالوقوف بين يدي الله ، وانقطاعا تاما لمناجاته ، وتمثلا حيا لجلاله وكبريائه ، واستغراقا كاملا في دعائه.
والمراد بقوله : (يُنْفِقُونَ) يخرجون ويبذلون ، من الإنفاق وهو إخراج المال وبذله وصرفه.
والجملة الكريمة في محل رفع صفة للموصول في الآية السابقة أو بدل منه أو بيان له.
والمعنى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وسننها وآدابها وخشوعها .. وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٨٦.