فإن قيل : لما قال : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) فأى حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال (وَبِالْمُؤْمِنِينَ)؟
قلنا : التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين : أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثاني ما يحصل بواسطة أسباب معلومة.
فالأول هو المراد من قوله (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) والثاني هو المراد من قوله : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال ـ تعالى ـ : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
أى : أن من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك ـ سبحانه ـ بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله ـ تعالى ـ كالنفس الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة المتنازعة (وَلكِنَّ اللهَ) بفضله وقدرته هو وحده الذي (أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فصاروا إخوانا متحابين متصافين (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (عَزِيزٌ) أى : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن (حَكِيمٌ) في كل أفعاله وأحكامه ..
وهذه الآية الكريمة يؤيدها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب ـ وخصوصا الأوس والخزرج ـ كانوا قبل الإسلام في حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنازع والتحارب .. فلما دخلوا في الإسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ، وتفرقهم إلى اتحاد ... وصاروا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل ...
ولقد أجاد صاحب الكشاف ـ رحمهالله ـ في تصويره لهذه المعاني حيث قال : «التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الآيات الباهرة ، لأن العرب ـ لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة .. ـ لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلىاللهعليهوسلم واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٨٨.