وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أى : «عليم» بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء من صفاتهم وطباعهم «وحكيم» في صنعه بهم ، وفي حكمه عليهم ، وفيما يشرعه لهم من أحكام ، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب.
هذا ، وقد ذكر المفسرون هنا أمثلة متعددة لجفاء الأعراب وجهلهم ، ومن ذلك قول الإمام ابن كثير :
قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابى إلى زيد بن صوهان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم «نهاوند» فقال الأعرابى : والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبنى!! فقال زيد : وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال!! فقال الأعرابى : والله ما أدرى اليمين يقطعون أو الشمال!! فقال زيد : صدق الله إذ يقول : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ..).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن».
وروى الإمام مسلم عن عائشة قال : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ فقال صلىاللهعليهوسلم نعم. فقالوا : لكنا والله ما نقبل!! فقال صلىاللهعليهوسلم «وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ حال فريق آخر من منافقي الأعراب فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً).
أى : ومن الأعراب قوم آخرون يعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله غرامة وخسارة عليهم لأنهم لا ينفقون ما ينفقونه طمعا في ثواب ، أو خوفا من عقاب وإنما ينفقونه تقية ورياء ومداراة للمسلمين ، لا مساعدة للغزاة والمجاهدين ، ولا حبا في انتصار المؤمنين.
قال الجمل : وقوله : «من يتخذ ما ينفق مغرما» «من» مبتدأ ، وهي موصولة أو موصوفة ، و «مغرما». مفعول ثان ، لأن «اتخذ» هنا بمعنى صير ، والمفعول الأول قوله : «ما ينفق».
والمغرم : الخسران ، مشتق من الغرم وهو الهلاك لأنه سببه ، وقيل أصله الملازمة ، ومنه الغريم للزومه من يطالبه» (٢).
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٨٣ بتصرف وتلخيص.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢١١.