ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ).
أى : لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين ، من قبل ما حدث منهم في غزوة تبوك.
ومن مظاهر ذلك أنهم ساءهم انتصاركم في غزوة بدر ، وامتنعوا عن مناصرتكم في غزوة أحد ، متبعين في ذلك زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول ، ثم واصلوا حربهم لكم سرا وجهرا حتى كانت غزوة تبوك التي فضح الله فيها أحوالهم.
فالمراد بقوله : (مِنْ قَبْلُ) أى : من قبل هذه الغزوة التي كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
أى أن ما صدر عن هؤلاء المنافقين من مسالك خبيثة خلال غزوة تبوك ليس هو الأول من نوعه ، بل هم لهم في هذا المضمار تاريخ مظلم بدأ منذ أوائل عهد الدعوة الإسلامية بالمدينة.
وقوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) بيان لتفننهم في وجوه الأذى للنبي صلىاللهعليهوسلم وتقليب الأمر : تصريفه ، وترديده ، وإجالة الرأى فيه ، والنظر إليه من كل نواحيه : لمعرفة أى ناحية منه توصل إلى الهدف المنشود.
والمراد أن هؤلاء المنافقين قد ابتغوا الأذى للدعوة الإسلامية من قبل هذه الغزوة ، ودبروا لصاحبها صلىاللهعليهوسلم المكايد ، واستعملوا قصارى جهدهم ، ومنتهى اجتهادهم ، وخلاصة مكرهم ، من أجل صد الناس عن الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ ..) غاية لمحذوف ، والتقدير : أن هؤلاء المنافقين استمروا على حربهم للدعوة الإسلامية «حتى جاء الحق» أى : النصر الذي وعد الله عباده به «وظهر أمر الله» أى : دينه وشرعه «وهم» أى المنافقون وأشباههم «كارهون» لذلك ؛ لأنهم يكرهون انتصار دين الإسلام ، ويحبون هزيمته وخذلانه ، ولكن الله ـ تعالى ـ خيب آمالهم ، وأحبط مكرهم.
قال الإمام ابن كثير : عند ما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبى ، وأصحابه : هذا أمر قد توجه ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم وساءهم ، ولهذا قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (١).
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦١.