والتماقت ، وكلفهم من الحب ، في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد.
قيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم. ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى. وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس. وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر منه.
فأنساهم الله ـ تعالى ـ ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا ، وعادوا أعوانا ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته» (١). هذا ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم «حنين» قال لهم : يا معشر الأنصار!! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؛ وعالة فأغناكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا : الله ورسوله أمن» (٢).
وروى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم يقرأ قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ...) (٣).
ثم مضت السورة الكريمة في تثبيت الطمأنينة في قلب النبي صلىاللهعليهوسلم وفي قلوب أصحابه ، فبينت لهم أن الله كافيهم وناصرهم ، وأن القلة منهم تغلب الكثرة من أعداء الله وأعدائهم فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٣.
(٢) صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٠٠ من «كتاب المغازي» طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٤٥ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٠٨ من «كتاب الزكاة».
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٣.