وتقديرهم ، وذلك قوله (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) (١) ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم فاستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا ، وكثرتهم آخرا.
ثم قال : فإن قلت : بأى طريق يبصرون الكثير قليلا؟
قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين.
قيل لبعضهم : إن الأحوال يرى الواحد اثنين ـ وكان بين يديه ديك واحد ـ فقال : ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بيان لحكمة تدبيره ، ونفاذ قدرته ، وشمول إرادته.
أى فعل ـ سبحانه ـ ما فعل من تقليل كل فريق في عين الآخر ، ليقضى أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو نشوب القتال المفضى إلى انتصار المؤمنين ، واندحار الكافرين وإلى الله وحده ترجع الأمور لا إلى أحد سواه ، فإن كل شيء عنده بمقدار ، ولأن كل شيء في هذا الكون بقضائه وقدره ، وما من شيء إلا مصيره ومرده إليه.
قال بعض العلماء : ولا يقال إن قوله ـ تعالى ـ : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مكرر مع ما سبق ، لأننا نقول : إن المقصود من ذكره أولا ـ في قوله : إذ أنتم بالعدوة الدنيا .. هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم والمقصود منه هنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ثم تكثيرهم للحكم المتقدمة (٣).
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة حكت لنا جانبا من أحداث غزوة بدر بأسلوب تصويري بديع في استحضار لمشاهدها ومواقفها ، وكشفت لنا عن جوانب من مظاهر قدرة الله ، ومن تدبيره المحكم الذي كان فوق تدبير البشر ، ومن تهيئة الأسباب الظاهرة والخفية التي أدت إلى نصر المؤمنين وخذلان الكافرين.
وبعد هذا التذكير النافع ، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر ، وجه ـ سبحانه ـ في هذه السورة إلى المؤمنين النداء السادس والأخير ، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالمداومة على ذكره وطاعته .. ، ونهاهم عن التنازع والاختلاف فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(١) سورة آل عمران الآية ١٣.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٥.
(٣) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠١٠.