وقوله (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) بيان لمحل النعمة. أى : ولكن الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع وتفرق الآراء في شأن القتال : حيث ربط على قلوبكم ، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم.
وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل يدل على شمول علمه ـ سبحانه ـ.
أى : إنه ـ سبحانه ـ عليم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن. ومن صبر وجزع ولذلك دير ما دبر.
قال الفخر الرازي ، قال مجاهد : أرى الله النبي صلىاللهعليهوسلم كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا : رؤيا النبي حق. القوم قليل ، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم.
فإن قيل : رؤية الكثير قليلا غلط ، فكيف يجوز من الله ـ تعالى ـ أن يفعل ذلك؟
قلنا : ذهبنا أنه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله ـ سبحانه ـ أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون (١).
ونستطيع أن نضيف إلى ما أجاب به الفخر الرازي أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة : الضعف وهوان الشأن ..
أى : أن المشركين وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف ـ أى أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين ـ إلا أنهم لا قوة لهم ولا وزن ، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة. لأنهم ينقصهم الإيمان الصحيح الذي يقوى القلوب ، ويدفع النفوس إلى الإقدام لنصرة الحق لكي تفوز برضا الله وحسن مثوبته.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : وقد تقدم أن النبي صلىاللهعليهوسلم قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك ، ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا ، لا أنهم قليل في الواقع ، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا ، وأن كيدهم يكون ضعيفا ، فتجرءوا وقويت قلوبهم (٢).
هذا ، ونسب الى الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة ، وأن المراد من المنام العين التي هي موضع النوم. قال الزمخشري. وهذا تفسير فيه تعسف. وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن.
وقال الآلوسى : وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين ، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٦٩.
(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٢.