تعالى فطر النّاس على استحسان الصّدق النافع والعدل والإحسان والعفّة والنجابة ، وفطر نواميسهم على استقباح أضدادها ، ونسبة هذا إلى مرتكزاتهم الفطرية كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم ، والرائحة الطيّبة والنتنة إلى مشامّهم ، والصوت الحسن وعدمه إلى أسماعهم على حدّ سواء ، إلى غير ما هنالك مما يفرقون بفطرتهم قبحه وحسنه ، ونفعه وضره وهذا كلّه هو القبح العقلي وحسنه.
وأما ما ذكره الآلوسي من الأقسام وأنه يعترف لحكم العقل بتحسين كمال الشيء وقبح نقصانه كالجهل ، ويعترف بحسن العدل وقبح الظلم فهو بعينه راجع إلى التحسين والتقبيح العقليّين الّذي أنكر حكمه بهما من استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، ونفى من أن يكون له حكم في شيء من ذلك لأن الكمال والنقص إنما يجريان في الأفعال ، والاعتراف بالحسن والقبح بهذا المعنى في الأفعال مستلزم للقول بالحسن والقبح الّذي جعله محلّ النّزاع من استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، لأن بداهة العقل تحكم بأنه لا يجوز على الحكيم الكامل أن ينهى عن الصّدق النافع ويجعله متعلّقا للذم والعقاب ، ولا يجوز عليه أن يأمر بالكذب الضارّ ويجعله متعلّقا للمدح والثواب ، كما زعم ذلك هذا الرجل في قضية النّسخ من الواجب إلى الحرام وبالعكس ، فإنكار هذا لا شكّ في أنه من كمال المناقضة مع الاعتراف بذلك.
ثانيا : قوله : « وتمسّكوا على ذلك بوجوه ».
فيقال فيه : إنّ تلك الوجوه التي أشار إليها هذا الآلوسي والتي أخذها تقليدا لنفي الحسن والقبح العقليّين وأنه لا حسن ولا قبح عندهم بالعقل هي بعينها واردة على ما اعترف به من القسمين الأولين الّذي زعم أنهما قسيمان للمعنى الثالث مع أن الجميع واحد في المعنى فحكمه واحد ، أما التقسيم الّذي جاء به فإنما هو من مخترعات المتأخرين من الخصوم ، حاولوا به الفرار من فساد سلعتهم وبطلان مزعمة رئيسهم الأشعري ، فإن هذا التقسيم قديما لم يكن في أقوالهم كما يتضح لمن راجع كلماتهم لا سيما كلمات الأشعري في هذا الباب ، وقد ألمعنا غير مرّة إلى وجود كمال المناقضة بين اعترافهم بحكمه بهما في الأولين من النقص