فهل تراه تعالى ملغزا مغريا بالجهل ويريد غير ما هو الموضوع له من ظاهر كلامه ، وهو قبيح يستحيل على الله تعالى أن يريده ، ولنضرب لك مثلا نشاهد به أنه لا يريد في الآية الثانية إلاّ المسح ، وذلك ما إذا قلت : ( اضرب معاوية وعمرا ، وأكرم عليّا وحسنا ) فإنك لا تفهم من الجملة الثانية أنك تريد ضرب حسن ، وإنما تفهم منها إكرام حسن وإكرام عليّ ، كما لا تفهم من الجملة الأولى إلاّ ضرب معاوية وعمرو ، ولو أردت خلاف ذلك من ظاهر كلامك لعدّك العقلاء من زمرة الملغزين المموهين ، والآية من هذا القبيل لا تريد سوى غسل الوجوه والأيدي في الفقرة الأولى ، ومسح الرءوس والأرجل في الفقرة الثانية ، وليس هناك شاهد على خلاف ما تريده مطلقا لا من ظاهرهما ولا من غيرهما ، فوجب الأخذ به والعمل عليه ، فلا يعدل عن الظهور لأجل التحريف الّذي يرتكبه بعض أهل الزيغ في كتاب الله ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وابتغاء تصحيح غير الصحيح.
الأمر الثاني : قوله : « وهما قراءتا النّصب والجرّ ، وقد ثبت في أصول الفريقين أن القراءتين المتواترتان إذا تعارضتا في آية واحدة ».
فيقال فيه : لا يلزم من تواتر القراءتين وتساويهما في آية واحدة أن تكونا متعارضتين ، وليس بين قراءة من قرأ بالجر وبين من قرأ بالنصب من تعارض حتى يحتاج إلى الجمع العرفي بينهما ـ كما يزعم الآلوسي ـ إذ بتقدير الجرّ فإنه معطوف على ( رءوسكم ) فيجب الاشتراك في الحكم على معنى يجب مسح الأرجل ، لاتفاق أهل العربية على أن الواو تشرك في الإعراب والحكم ، فيثبت حكم المسح الثابت للرؤوس للأرجل أيضا ، وأما بتقدير النصب على قراءة من قرأ به فإنه معطوف على محلّ الرءوس إذ أن محلّها النصب ، والتقدير امسحوا رءوسكم وأرجلكم ، فأين التعارض الّذي يزعم هذا الخرّاص وجوده بين القراءتين ، ولعله إنما ادعى هذا التعارض الموهوم ليجمع بينهما حسبما يهوى وشاء له مذهبه ، وإن كان ذلك مخالفا لما عليه أهل هذا الفن في الجمع بين المتعارضين مطلقا ، لذا تراه يقول بكلّ اطمئنان : ( يحمل المسح على الغسل جمعا ) وقد عرفت عدم التعارض لكي نحتاج إلى الحمل والجمع والصرف والتأويل.