هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلّا على طرقهم وأساليبهم.
ومن ذلك قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال : أسوّي العوج. وكم لهم من هذه الأمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم وإن كان محالا ، ولكنّ الغرض منه أنّ السمن في الحيوان ممّا يحسّن قبيحه ، كما أنّ العجف (١) ممّا يقبّح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف. فقد علمت من ذلك أنّ تصوير عظم الأمانة ، وصعوبة أمرها ، وثقل محملها ، والوفاء بها ، بما في الآية ، لأجل تقريبه إلى الفهم.
وقيل : الآية على معناها الحقيقي ، لما روي أنّ الله سبحانه لمّا خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما ، وقال لها : إنّي فرضت فريضة ، وخلقت جنّة لمن أطاعني فيها ، ونارا لمن عصاني. فقلن : نحن مسخّرات على ما خلقتنا ، لا نحتمل فريضة ، ولا نبتغي ثوابا ولا عقابا. ولمّا خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله ، وكان ظلوما لنفسه بتحمّله ما يشقّ عليها ، جهولا بوخامة عاقبته.
ولعلّ المراد بالأمانة : العقل أو التكليف. وبعرضها عليهنّ اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهنّ. وبإبائهنّ الإباء الطبيعي الّذي هو عدم القابليّة والاستعداد. وبحمل الإنسان قابليّته واستعداده لها. وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة والشهويّة. وعلى هذا يحسن أن يكون علّة للحمل عليه ، فإنّ من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوّتين ، حافظا لهما عن التعدّي ومجاوزة الحدّ ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما.
وقيل : المراد بالأمانة أمانات الناس والوفاء بالعهود.
__________________
(١) العجف : الضعف والهزال.